– منذ أن أمر الله سبحانه وتعالى النبي إبراهيم على نبينا وآله وعليه السلام بـ { وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فجّ عميق } ، ومنذ أن جعل الله الكعبة للمسلمين قبلة والحج من أهم أركان الإسلام وتركه عمداً ومع الإستطاعة كفراً، فإن قلوب جميع المسلمين في كافة أنحاء المعمورة تهوي إلى أداء الفريضة وتطبيق الشعائر وزيارة قبر الرسول صلى الله عليه واله؛ ولأجل تحقيق الأمنية هذه يدّخر المؤمن في كل بلاد العالم المال رغم ضنك العيش والحاجة الماسّة إليه ليتمكن من تحقيق مناه وحج بيت الله الحرام ولو مرة في الحياة.
– إن تجمع المسلمين من مختلف القوميات واللغات في بقعة واحدة يجمعهم الإيمان بالله العلي القدير والشوق لنيل رضاه في الدنيا والحصول على المنزلة الرفيعة لديه في الآخرة، وفي شعيرة عظيمة يخلع الجميع أثوابهم المتنوعة، ويتخلى كل ذي شرف عن عنوانه، ويتساوى الوضيع والرفيع، ولا يفرق الفقير والغني، ويتعانق الأسود والأبيض، ويطوف ببيت الله العربي كتفاً إلى كتف الأعجمي، ويذكر المسلمون الله سبحانه بمختلف اللغات، وما ألذّ المشهد هذا، وما أجمل الوحدة هذه، وما أشرف الإجتماع العالمي السنوي هذا ؟!.
– لكن مرت عقود والوئام لم يظلل جموع الحجاج كما يجب، بل كان يُمنع الشائقون من بعض البلاد من بلوغ الأرض الحرام، والبعض الآخر يأتي وكله توجس من تشنيع وازدراء بل وتطاول واعتداء، وكان الموسم في تلك الأعوام يشهد محاولة حثيثة لنشر الفكر التكفيري الذي يجعل أغلبية المسلمين من مختلف المذاهب مشركين، والذي يرى وجوب أن يتخلى كل مسلم عن مذهبه وعقيدته ويقبل بما يشيعه المروّجون للفكر الوهابي الذين يستغلون موسم الحج لتوزيع منشوراتهم وكتبهم بشتى اللغات، واستغلال عدم معرفة الكثيرين لحقيقة الإسلام الحنيف فيلقنونهم ما يريدون من نهج عدواني وأفكار متطرفة فيعود هؤلاء وهم يظنون أنهم قد تعلموا الإسلام الأصيل، في حين أن الدعاة الذين ينتشرون بين صفوف الحجاج هم يروّجون لطريقة مبتدعة لا علاقة لها بجميع المذاهب الإسلامية المتداولة.
– المهم أن الحج هذا العام يسوده الوئام، ولا يدّعي أحد شرك أتباع مذهب، ولا يمنع أحد أحداً عن العمل طبقاً لعقيدته، بل يستقبل أبناء مكة المكرمة والمدينة المنورة ومن في المطارات والمنافذ الحدودية إخوانهم من الأطراف بكل بشاشة وجه، ويتلقونهم بالأحضان، ويرحبون بهم وبأيديهم باقات الورود، بل يبادرون كل قوم بالترحاب بلغتهم، وهذا ما لم يكن متداولاً من ذي قبل.
– إن الصفحة الجديدة من التعامل مع القادمين لحج بيت الله الحرام لهو موضع فخر، وإن قبول المسلمين لمذاهب بعضهم، وتقبل أبناء كل مذهب لإخوانهم كما هم من دون كباش ومجادلة وتشنيع واتهام يعطي لموسم هذا العام نكهة خاصة، ويجعل كل مسلم يمضي الأيام من دون ملاحقة من أصحاب المنطق التكفيري، ولا خوف من مجابهة مروجي الفكر العدواني، منشغلٌ كل واحد بأداء المناسك طبقاً لمعتقده ومذهبه، ومشغولٌ بذكر الله سبحانه ومبتهلٌ إلى ربه كلٌ بلغته، ويعود الحجاج إلى بلادهم بإذن الله هذا العام وهم يحملون أحلى الذكريات، ويحفظون في أذهانهم أجمل الصور عن تلاقي المسلمين في ظل بيت الله الحرام، وتعارفهم في رحاب شعائر الله، وفي جعبتهم صور مع إخوة لهم لم يتمكنوا من التعرف عليهم ورؤية وجوههم لولا أن استجابوا جميعاً للأذان الإبراهيمي بعد بناء البيت العتيق، وأطاعوا أمر الله تعالى بترك الاهل والبلاد، والتخلي عن زخارف الدنيا وثياب الزينة وتوحيد الزي بالإحرام، والتلبية بلغة واحدة وبكامل الخشوع، والطواف معاً حول الكعبة المشرفة رافعين الأكف ضارعين إلى رب العالمين، وهنا يباهي الله ملائكته بالطائفين والقائمين والرّكّع السجود، وهكذا يرفع الله ذكر خليله إبراهيم الذي ابتلاه الله بمختلف البلاء العظيم لكنه أسلم بكل كيانه ووجوده لرب العالمين { وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلمات فأتمهنّ قال إني جاعلك للناس إماماً } ، فجزاه الله بأن جعل ذكره خالداً إلى أبد الآبدين، والأنبياء من ذريته حتى خاتم النبيين، والأوصياء من وُلده حتى قيام يوم الدين، وفي هذا تذكرة للعالمين وبرهان للمؤمنين وعبرة للمتقين، بل ويتجسد قوله تعالى في كتابه المجيد : { إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون } صدق الله العلي العظيم .
– السيد صادق الموسوي