– مقومات الدولة ثلاث: الأرض، الشعب، والدستور، وفي هذا الإطار نسلّم جدلاً أن “إسرائيل” هذه ليست الا كياناً مصطنعاً لا تملك مقوّمات الدولة الحقيقية. كيان احتلال يستأجر “مواطنين” (مستوطنين بطبيعة الحال)، وتعصف به الأزمات الداخلية – ناهيك عن التهديد الخارجي للمقاومة من كل الجبهات – الى أن قال الكاتب الإسرائيلي مايكل بريزون في سياق انتقاده للمجتمع اليهودي “نحن لا نحسن أن نكون أمة”.
– التفوق الديموغرافي الفلسطيني :
– يقول اللواء عاموس جلعاد في مقالة له في هارتس أن “نسبة اليهود في القدس تتراجع، ولا أعتقد أن السنوار (رئيس حركة حماس في غزة يحيى السنوار) بحاجة لاطلاق صواريخ ما دامت الأهداف الاستراتيجية تتحقّق دون ذلك، فتأثير الصراع الديموغرافي أقوى من القنبلة النووية”. اذ لم يتمكّن الكيان المؤقت، رغم الكثير من السياسات مثل استقدام اليهود وتقديم الاغراءات لبقائهم بالإضافة الى عمله على محاكاة “الحياة الاسرائيلية” بكّل تفاصيلها بالحياة الغربية، وتأمين الرفاه و”الأمان”، من التخلّص من معضلة امتلاك الأرض والديموغرافيا.
– القدس نموذجاً :
– يُقدّر عدد سكان القدس المحتلة بـ 919 ألف نسمة، ورغم محاولات التهويد والاستيطان بلغت نسبة الفلسطينيين في القدس 349600 أي 38% من مجمل السّكان مقابل 55800 يهودي أي ما نسبته 62%. ويسجّل تراجع عدد اليهود المستوطنين في القدس الشرقية من 46% عام 1996 الى 39% عام 2022 حيث يستوطن حالياً 220 ألف يهودي، كما يلاحظ التراجع نسبة “هجرة” اليهود الى القدس بأقل من 6000 حالة وهو الحد الأدنى منذ العام 2012. في المقابل أشارت صحيفة “هآرتس” العبرية في العام 2017 أن الفحص الدقيق للوضع الديموغرافي الذي أجراه اتحاد المياه البلدي الإسرائيلي “جيحون”، مؤخراً، يكشف أن هذه المعطيات لا تشمل عشرات آلاف الفلسطينيين الآخرين الذين يعيشون داخل حدود المدينة. وحسب تقييمات الخبراء فإن الغالبية اليهودية في المدينة تقل عن المعطيات الرسمية وتصل إلى حوالي 59% وشرحت الصحيفة أن مشكلة احتساب النسب تكمن في “عدد السكان الفلسطينيين الذين يعيشون في مخيم اللاجئين شعفاط ومنطقة كفر عقب، والتي تعتبر تابعة للقدس لكنه (الاحتلال) تم فصلها عن المدينة بواسطة الجدار الفاصل”. هذه الاحصائيات تحبط مخطط الاحتلال حول “القدس الموحدّة” وسيطرته على القسم الشرقي منها بعد احتلاله شبه الكامل للقسم الغربي (حسب التقسيمات الإسرائيلية)، وهذا المخطط يعدّ جزء من صفقة القرن التي كان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب يرعاها (الاعتراف بأن القدس عاصمة الكيان). وفي العام 2021 أشارت تقارير عبرية الى أن “إسرائيليين ينظرون بقلق إلى التفوق الديمغرافي الفلسطيني في المنطقة ما بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن (أرض فلسطين التاريخية)”.
– ومن ناحية ثانية، أكدت مسيرة الأعلام اليهودية يوم الأحد في 29 أيار / مايو الماضي، بالشكل الذي تّمت به، أن الشعب الفلسطيني سيد هذه الأرض وأن كل محاولات الاحتلال التهويدية لم تغير المعادلة. وقد اعترف رئيس جهاز “الموساد” الإسرائيلي الأسبق، تامير فاردو خلال حديثه في مؤتمر أمني بأن “مشاورات واستعدادات لأسابيع حول مسألة إقامة تلك المسيرة تبعث على الشك في مدى السيادة على المكان…هل يعقل بأن تقوم حكومة إسرائيل وعلى مدار أسابيع بتقييم للأوضاع سعيًا لاتخاذ قرار حول إمكانية السماح بالمسيرة أم لا؟!، وهل سيطرح هكذا تساؤل في لندن أو باريس أو واشنطن؟ …إن دولة بأكملها أشغلت نفسها وفي جميع نشرات الأخبار ناقشت مسألة القدرة على إجراء المسيرة في عاصمتنا”. عادًا ذلك بـ “الأمر غير المسبوق في أي مكان”.
– كذلك أظهرت نتائج جهاز الاحصاء المركزي الفلسطيني (الصادرة عام 2021) أن عدد الفلسطينيين داخل حدود الأراضي المحتلة عام 1967 بلغ أربعة ملايين و780 ألفاً، إضافة إلى 1.5 مليون في الداخل المحتل، وذلك بزيادة زيادة مليون فلسطيني خلال السنوات العشر الأخيرة (منذ العام 2008). وفيما يتعلق بالتركيب العمري، فإن المجتمع الفلسطيني فتيّ، حيث إن نسبة الأطفال ما دون 18 عاماً سجّلت 47% من نسبة الفلسطينيين، فيما بلغت نسبة الأفراد من ستين عاما فما فوق 5% فقط من إجمالي عدد السكان، فيما بلغ متوسط حجم الأسرة 5.1. وتسقط هذه الأرقام أيضاً طرح “حل الدولتين الذي يؤيده اليسار الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية.
– كما تنذر هذه النتائج بتصاعد المقاومة وأشكالها، وقد باتت المؤشرات أوضح ميدانياً مع تنامي كتائب المقاومة وعدد العمليات الفدائية في الضفة والدّخل، الى جانب مشاهد التصدي والصمود التي يظهرها المقدسيون عند كل حدث.
– للديموغرافيا أهمية كبيرة .. وأن تكون من حلقات الصراع الفلسطيني :
– إضافة إلى ذلك، لم يوضع في الاعتبار احتساب أي موجات هجرة يهودية محتملة، فمن شأنها إذا حدثت أن ترفع عدد المواليد اليهود في إسرائيل. ويقول الإسرائيليون أيضا إن الهيئة المركزية للإحصاء الفلسطينية لم تكن تحتسب الهجرة الفلسطينية السلبية إلى الخارج، وأنها كانت تعطي أرقام وفيات أقلّ مما يحدث، لأن ذلك يؤثر في المساعدات التي تقدّمها المنظمات الدولية للفلسطينيين على أساس عدد أفراد الأسرة.
– ويقول رئيس منتدى الدراسات الفلسطينية في مركز موشيه ديان في جامعة تل أبيب ميخائيل ميلشطاين إن هذا الاختلاف سبق قيام الدولة، وإنه مثلما اختلف الباحثون بشأن التهويل أو التقليل من الوضع الديموغرافي، اختلف السياسيون كذلك، حيث انقسموا إلى فريقين؛ أحدهما كان يؤيد فصل الأراضي على أساس الأغلبية الديموغرافية، وهذا الفريق كان يحذّر من أن عدم الفصل سوف يؤدّي إلى فقدان الأغلبية اليهودية على فلسطين كلها، وقد يقود إلى ما يشبه النموذج الجنوب أفريقي، حيث أصحاب الأصول الأوروبية قلة، مقارنة بسكان البلاد الأصليين من السود. ولذلك كان ييغال ألون، وهو أحد القادة السياسيين والعسكريين السابقين في إسرائيل، يدعو إلى الفصل التام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وكان يريد نقل جزءٍ من أراضي الضفة الغربية إلى الأردن، لتكون ملجأ للفلسطينيين، حتى لا تكون هناك دولة فلسطينية. وكان إسحق رابين يبرر اتفاق أوسلو بخوفه من أن وجود دولة واحدة ثنائية القومية مع الفلسطينيين سوف يهدّد الطبيعة اليهودية والديمقراطية لإسرائيل؛ وكان ذلك أحد أسباب موافقته على إقامة السلطة الفلسطينية.
– وفي مقابل ذلك، كان هناك معسكر رفض هذه النبوءات الديموغرافية؛ بدءا من شمعون بيريس في بدايات السبعينيات، مرورا بمناحيم بيغن، وانتهاء بأغلب قادة اليمين حاليا. فقد رفض هؤلاء، وما زالوا، البيانات عن أعداد العرب في الضفة وغزة، وزعموا إن خصوبة المرأة الفلسطينية في تراجع مستمر، بينما تتزايد خصوبة المرأة اليهودية، إضافة إلى هجرة الفلسطينيين إلى الخارج، في مقابل استقبال مزيد من المهاجرين اليهود. وكانت هذه، من وجهة نظرهم، عوامل تؤدّي إلى أن تكون الديموغرافيا في صالح إسرائيل. وبناء على هذه المعطيات، لا يرى أنصار هذا الفريق أي مانع من فرض السيادة الإسرائيلية الكاملة على الضفة الغربية.
– أخيراً : كلا الفريقين يشعران بخطورة الوضع الديموغرافي، لكن الحقيقة أن الديموغرافيا وحدها لا يمكن أن تكون الحل؛ فما قيمة الزيادة السكانية في ظل مشكلات الجهل والفقر والتخلف التي يعاني منها الناس؟ وما قيمة الانتصار الديموغرافي في ظل التخلف العلمي الذي يسيطر على أوطاننا؟ من المفهوم أن تكون للديموغرافيا أهمية كبيرة، وأن تكون من حلقات الصراع الفلسطيني، لكن غير المفهوم أن نحتفي بانتصار الكم، ونحن نهمل الكيف. نوعية الإنسان أهم بكثير من عدده، ومن أسفٍ أنه ليس من أولويات النظام العربي نوعية الإنسان.