– يتسم مجتمع الكيان الصهيوني بتعدد الأزمات التي يعيشها وبتنوعها، وأبرزها المتعلقة بالهوية نظراً لتنوع واختلاف البيئات التي قدم منها المهاجرون اليهود إلى فلسطين، وكان لهذه الأزمات أثرها في دفع المستوطنين الصهيونيين نحو الهجرة المعاكسة، وتجسد ذلك في تراجع تمسك المستوطنين بالبقاء في الكيان الصهيوني.ومنذ نشوء الكيان والسلطات الصهيونية تسعى إلى تحويل “المجتمع الصهيوني” من مجتمع مهاجرين غير متجانس، على جميع الأصعدة، إلى مجتمع تغلب عليه صفات المجتمع المتجانس رغم تعدد ثقافاته، مجتمع متماسك ومتكافل اجتماعياً، لا تشكل الانتماءات الأثنية العصب الأهم والأبرز في صوغ هويته، مجتمع يتجاوز ظروف تشكله الأساس كواقع استعماري احتلالي استيطاني، ويدفع باتجاه حالة الاستقرار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الحالة التي تبقي الكيان جاذباً ليهود العالم ويدفعهم للهجرة إليه، وكذلك تبقي المستوطنين متمسكين بالكيان
– ازدياد وتنامي الهجرة العكسية من الكيان الصهيوني تقلق الطبقة السياسية التي عقدت العديد من الاجتماعات واللقاءات مع المنظمات اليهودية في انحاء العالم وخاصة مع ايباك وان الهجرة العكسية تحيي مخاوف إسرائيلية قديمة من تأثر أعداد اليهود الملتحقين بالجيش والخدمه الاحتياطية بشكل خاص .
– وفي الوقت الذي تنشط فيه دولة الاحتلال لاستقدام الآلاف من اليهود حول العالم، واستغلال الحرب الأوكرانية الجارية لإفساح المجال أمام هجرة اليهود الروس والأوكرانيين، لكن بيانات الهجرة من داخل إسرائيل إلى خارجها تشهد قفزة حادة في في اعداد من يغادر بما يمكن تسميتها “الهجرة المعاكسة”، لأسباب مختلفة.
– هارتس ذكرت انه بلغ عدد “المهاجرين اليهود” من الكيان إلى الخارج 756 2ألفا، في نهاية عام 2021غادروها، ويقيمون حالياً في الخارج، وهذا الرقم لا يشمل العائدين خلال عام، بل هو عدد المغادرين “الصافي”، وفقًا لإحصائيات الجهاز المركزي للإحصاء الإسرائيلي.
– وأكد شلومو ماعوز الكاتب في صحيفة “معاريف” أن “هذه الهجرة العكسية تحيي مخاوف إسرائيلية قديمة من تأثر أعداد اليهود الملتحقين في صفوف الجيش، فضلا عن كون المسألة قد تحمل في طياتها، ولو بصورة غير واضحة حتى الآن، فكرة التخلي عن إسرائيل، رغم أن هؤلاء المهاجرين العكسيين قد يكونون غادروا لأسباب مختلفة: اقتصادية، أمنية، شخصية، أو الالتحاق بالأسرة الممتدة”.
– وأضاف أن “الظاهرة الجديدة في 2022 تعيد لأذهان الإسرائيليين ظاهرة مشابهة في عام 1990 حين غادر الدولة 14200 يهودي بسبب تدهور الوضع الأمني الناجم عن انتفاضة الحجارة التي اندلعت في 1987، واستمرت بكامل قوتها حتى حرب الخليج ومؤتمر مدريد في 1991، ثم ارتفعت مرة أخرى إلى معدل حاد بلغ 18200 مهاجر عكسي في 1993، وفي عام 1995 حصلت قفزة أخرى في الهجرة إلى الخارج بلغت 18.700 مهاجر، وهذه أرقام مثيرة للقلق”.
– وأكد أن “أسباب الهجرة العكسية لليهود تتباين من فترة لأخرى، أهمها الأوضاع الأمنية المتدهورة خاصة خلال انتفاضتي 1987 و2000، كما أن بعض مهاجري الاتحاد السوفيتي السابق لم يجدوا مكانهم في المجتمع الإسرائيلي، مما دفعهم بعد حصولهم على جواز السفر الإسرائيلي للبحث عن بلدان أخرى مثل كندا، وكأن إسرائيل بالنسبة لهم مجرد محطة عبور لهم”.
– وتعززت الهجرات اليهودية من الخارج إلى الداخل بسبب تطورات شهدها كيان الاحتلال ، أهمها توقيع اتفاقات السلام مع الفلسطينيين والأردن ، والهدوء الأمني السائد حتى سبتمبر 2000 ، والانسحاب من جنوب لبنان في مايو 2000، حتى اندلعت انتفاضة الأقصى في سبتمبر 2000، التي ضربت الإسرائيليين بلا رحمة ، وتسببت عملياتها التفجيرية اليومية بزيادة الهجرات من إسرائيل ، ففي 2001 هاجر منها 27200 يهودي ، فضلا عن الضربات الاقتصادية التي تعرض لها العدو الصهيوني ، و19 ألفا في 2002.
وتتزامن هذه الظاهرة التي تقلق دولة الاحتلال مع نتائج استطلاع للرأي بين الإسرائيليين، كشف أن 40% منهم يفكرون في الهجرة المعاكسة، وطرحوا لذلك تفسيرات عديدة، كالتدهور الحاصل في إسرائيل لأسباب كثيرة ومتنوعة، كالوضع الاقتصادي، وعدم المساواة، وخيبة الأمل بسبب تعثر التسوية مع الفلسطينيين. وأدى تصاعد المقاومة إلى انخفاض نسبة الهجرة إلى دولة الاحتلال بصورة واضحة ومقلقة لدى دوائر الهجرة اليهودية، وشهدت سنوات الانتفاضتين الفلسطينيتين إعلان 42% من اليهود أنهم يودون مغادرة إسرائيل والإقامة في دولة أخرى أكثر أمانا، وهناك 10% بدأوا في الإجراءات الفعلية للمغادرة، وظهر ذلك جليا في انخفاض بيع الوحدات السكنية داخل المستوطنات إلى النصف، رغم الجهود الهائلة من قبل الوكالة اليهودية بكل طاقاتها لإرسال المزيد من المهاجرين اليهود للإقامة في إسرائيل.
وهذه الهجرة المعاكسة دفعت بالرئيسة السابقة للجنة استيعاب المهاجرين في الكنيست “كورت أفيتال” للقول إنه “لأول مرة في تاريخ الصراع، أثبت الفلسطينيون للإسرائيليين أن الاحتلال أمر مكلف، لدرجة أنهم وبدون أسلحة متطورة وحديثة، خلقوا ميزان رعب، ولم يكن بالصدفة أن عدد المهاجرين من إسرائيل يفوق عدد القادمين إليها في السنوات الأخيرة خلال مرحلة انتفاضة الأقصى، فقد وصل معدل عدد القادمين 21 ألفا، بينما وصل عدد المهاجرين منها 27 ألف يهودي”. ولعل ذلك ما دفع رئيس بلدية القدس الأسبق “تيدي كوليك” إلى الجزم بفشل المشروع الصهيوني بعد أن عجز عن جلب اليهود للدولة، قائلا إن “المرء لا يكاد يصدق ما تراه عيناه، وهو يرى الحجم الكبير للهجرة العكسية من إسرائيل للخارج، فاليهود لا يهمهم العيش في دولة يهودية، بقدر ما يعنيهم العيش في بيئة آمنة ومربحة”.
اخيرا: إن العامل الديمغرافي اليهودي المهدد، ونوع العلاقات المستجدة بين إسرائيل ويهود الدياسبورا، أصبح مقلقاً للدولة العبرية لأنه يتعلق باستمرار وجودها كدولة يهودية. فقد تراجع معدل الهجرة السنوي إلى إسرائيل من 100 ألف مهاجر في التسعينيات من القرن الماضي إلى 14 ألف مهاجر في الوقت الحاضر. وبالمقابل، فإنَّ معدل الهجرة المعاكسة تراوح بين 7 و8 ألاف إسرائيلي. وتفسر الأبحاث المتخصصة تراجع هجرة اليهود إلى إسرائيل، إلى مجموعة عوامل، منها : تراجع عدد اليهود في العالم الذي انخفض من 21 مليونًا عام 1970، إلى 11 مليونًا و800 ألف نسمة في 2007 حسب إحدى الدراسات، وازدياد الزواج المختلط من غير اليهوديات (تتجاوز النسبة 51 في المئة وفق التقارير اليهودية الأمريكية)، والذوبان في المجتمعات المحلية، وعدم الاكتراث بأهمية ممارسة التقاليد اليهودية. وتبين أن نسبة الذوبان في روسيا وصلت إلى 70%، وفي أمريكا الشمالية إلى 50%، وفي أوروبا الغربية إلى 45%. أما العامل الأخير، فيتمثل في عزوف نسبة كبيرة من الشباب اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل عن الزواج. وهكذا، فإن الهجرة المعاكسة تلعب دوراً مهماً في رسم سياسات الكيان الصهيوني وتوجهاته المستقبلية نظراً لتداعياتها الخطيرة على مناحي الحياة كافة في الكيان، ولأثرها الخطير على الأهداف العليا للصهيونية لاسيّما تحقيق “يهودية الدولة”، وجمع يهود العالم لقيام “الوطن القومي” الذي دعا إليه تيودور هرتزل في المؤتمر الصهيوني الأول.