#وكالة_إيران_اليوم_الإخبارية
– كانت الأجواء مهيأة بالكامل قبل يوم ١٧ أيار من العام ١٩٨٢، والساحة اللبنانية كانت مستسلمة، والأطراف اللبنانيون راضين، ومجلس النواب اللبناني بكامل أعضائه تقريباً مستعد للتصديق على أية اتفاقية مع العدو الصهيوني الغازي، والخلاصة أن الجميع كانوا جاهزين لإعلان الإستسلام الكامل للكيان الصهيوني تحت إسم إتفاقية السلام مع ” دولة إسرائيل “.
– كنت أنا في ذلك الوقت متواجداً في بيروت متخفياً، وكنت أتابع التطورات لحظة بلحظة، فلما قرأت نص الإتفاقية المزمع التوقيع عليها في صحيفة النهار صباح يوم ١٦ أيار لم أتحمل الذل والهوان، فطلبت من أحد الإخوان وهو الذي كنت متخفياً في منزله في منطقة ” الغبيره ” أن يسارع إلى دعوة تجمع العلماء المسلمين للإجتماع في منزله، وهذا التجمع كان مؤلفاً في ذلك الوقت من مجموعة من العلماء صغار السن المؤيدين لخط الإمام الخميني رضوان الله عليه، في وقت كان أغلب العلماء البارزين غير مستعدين لإبداء أية معارضة للقرار الرسمي اللبناني الإنصياع للذل والهوان أمام المحتل الصهيوني، بل كانت الزيارات لرئيس الجمهورية يومذاك أمين الجميل متكررة من قبل وفود علمائية ورموز دينية إسلامية وكذلك كان يتمّ استقبال الجميل بالترحاب في مناطق في الضاحية الجنوبية.
– المهم أن العدد القليل من المجتمعين قرروا إعلان الإعتصام في مسجد الإمام الرضا عليه السلام في منطقة بئر العبد بعد أداء صلاة الظهر وذلك بالتزامن مع انعقاد الجلسة التي سيتمّ فيها التوقيع على الإتفاقية مع العدو الغازي، ورغم ظهور بعض الإعتراضات من عدد من المجتمعين وإبداء المخاوف من إمكانية عدم التجاوب من قبل المرحوم السيد محمد حسين فضل الله، لكن بعد الإتصالات تمت الموافقة على أن يشارك العلماء المصلين بإمامة فضل الله ثم هم يستمرون في اعتصامهم.
– لقد أعلنت الدعوة على عجل في الصحافة في ساعة متأخرة من الليل وخرجت الصحف صبيحة يوم ١٧ أيار وفيها دعوة المواطنين إلى المشاركة في الإعتصام، وفور اطلاع السلطات قرر الجيش يومذاك تطويق المنطقة ومنع الناس من التوجه إلى المسجد من أجل الحد من الإحتشاد وسهولة مواجهة المعتصمين، لكن من تمكنوا من الحضور والعدد القليل من العلماء الذين حضروا الصلاة رفعوا الصوت عالياً ضد إتفاقية الذل مع الكيان الصهيوني المحتل وكسروا حاجز الخوف الذي كان يتحكم بالساحة اللبنانية .
– لم تتحمل الدولة اللبنانية هذا الإعتراض المحدود، فكانت المواجهة مع المعتصمبن وإطلاق النار على المصلين واستشهاد محمد نجده وجرح عدد من الرجال والنساء، وقام الجيش أيضاً بحملة اعتقالات لمن كانت تعتقد أنهم وراء تحريض الناس على الإعتصام، وكان من بينهم الحاج نعيم قاسم ( الأخ العزيز سماحة الشيخ نعيم قاسم ) الذي تم اقتياده إلى وزارة الدفاع في اليرزة وقاموا بضربه وتعذيبه هناك.
– لقد صدرت بيانات منددة للخطوة الإعتراضية تلك من قبل المؤسسات الدينية والشخصيات الرسمية، وتمّ أيضاً تهريب جثمان الشهيد نجده إلى الجنوب الواقع تحت الإحتلال خفية ودفنه على عجل لتفويت الفرصة على المعترضين والحيلولة دون تحول تشييعه ودفنه في الضاحية الجنوبية إلى حركة إحتجاجية أوسع ضد اتفاق الذل والإستسلام أمام العدو الصهيوني.
– ورافقت الخطوة هذه إعلان الحكومة اللبنانية قطع علاقاتها الدبلوماسية مع الجمهورية الإسلامية في إيران بعد اتهامها بالوقوف وراء الحركة الإعتراضية التي قام بها تجمع العلماء المسلمين والشباب اللبنانيين الغيارى رفضاً للخنوع والإستسلام.
– وفور توقيع ممثل لبنان والكيان الصهيوني على الإتفاق سارع مجلس النواب إلى المصادقة على الإتفاقية بالإجماع تقريباً، وبذلك اكتسبت الشرعية القانونية المطلوبة طبقاً للدستور اللبناني.
– وبعد حدوث تطورات وتوسع دائرة الاعتراضات وحصول مواجهات اضطرت حكومة أمين الجميل للتراجع عن الإلتزام بالإتفاقية، وسحب مجلس النواب مصادقته، وفشلت الخطة الصهيونية المدعومة عربياً ليكون لبنان ثاني دولة عربية توقع اتفاقاً مع الكيان الصهيوني بعد مصر، ويكون ذلك تمهيداً للحاق دول أخرى بقافلة المطبّعين بحجة عدم القدرة على الإستمرار في مواجهة القوة الصهيونية القاهرة.
– إنني ذكرت بإيجاز الظروف التي هيأت لاتفاق ١٧ أيار المشؤوم، والعوامل التي سهلت الإذعان للمحتل، وتبريرات الذين ساروا في ركب الإستسلام أمام الغزاة، بل قاموا بمهاجمة الثلة من العلماء الذين رفضوا الإذعان وحتى رفض كونهم علماء وطلاب علوم دينية من الإساس، لأنطلق إلى الواقع الذي هو في طور التحضير في الوقت الراهن.
– فالساحة اللبنانية مفتوحة أمام الصهاينة ليدخلوا إلى لبنان ويقوموا بإجراء المقابلات الصحفية ثم بثها في التلفزيون الصهيوني، والعملاء الذين خدموا الصهاينة سنوات بل عقوداً نراهم يتجولون أحراراً مطمئنين بل يتحركون بتغطية من أطراف في الدولة اللبنانية، وأيضاً يتفاخر عدد من ” الفنانين اللبنانيين ” الساقطين جهاراً بالعلاقة مع ” الإسرائىليين “، ويأتي الكلام الصريح الصادر عن رئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل حول ضرورة ضمان أمن ” إسرائيل “ من دون أن يصدر أي موقف مندد من قبل المتحالفين معه، وأيضاً السكوت الرسمي المريب على استغلال الكيان الصهيوني للثروة النفطية اللبنانية من خلال التلهي بالخلافات السياسية وإطالة المفاوضات غير المباشرة مع الكيان الغاصب وسكوت الذين يُفترض فيهم أن يكونوا القوة الدافعة لتحصيل حق لبنان المهدور والمغتصب من قبل الصهاينة، وفي نفس الوقت نشاهد توسع دائرة المنادين بإبعاد إيران عن الساحة اللبنانية، ومهاجمة أي طرف يُبدي اعتراضاً على عمليات التطبيع من خلال إصدار بيانات أو نشر تصريحات أو حتى إبداء موقف، في وقت يطالب أولئك بتوطيد العلاقة مع الدول التي سارت في عملية التطبيع مع العدو الصهيوني، و تبادلت السفراء معه، واستقبلت قيادات الكيان على أعلى المستويات في عواصمها بصورة رسمية، وشاركت في الإحتفال بذكرى إعلان الصهاينة دولتهم على أرض فلسطين، وأرسلت وفوداً تمثل مختلف الطوائف من مواطنيها إلى فلسطين المحتلة لتثبت قبول كافة أطياف الشعب لعملية الإذعان للكيان المجرم.
– إن تلبد الغيوم في لبنان من خلال تكتل جميع دعاة التطبيع مع ” إسرائيل “، ومهاجمة زمرة مرتزقة للسفارات الأمريكية والعربية المطبعة علانية وسرّاً حزب الله بعنف شديد عبر إقامة العراضات السخيفة مثل ما حدث قبل يومين من قبل حفنة من الموتورين أمام قصر العدل في بيروت، وتحميل الحزب مسؤولية ما يعانية لبنان من أزمات خانقة، وما يعيشه اللبنانيون في الداخل من انهيار إقتصادي، وما يواجهه الموجودون منهم في الخارج من مضايقات وتهديدات، بل واتهامه بالوقوف في صف الطغمة الفاسدة ومساندته لناهبي قوت الشعب المسكين وتهريب أموال المودعين إلى الخارج، بل وإجهاضه كل حركة اعتراضية يحاول الموجوعون القيام به ومواجهة المعترضين إذا تحركوا وذلك بدفع جوقة من المناصرين للإشتباك مع الغاضبين ثم تقوم الماكينة الإعلامية التابعة بكيل الإتهامات ضد المعترضين؛ وهذا ما يزيد من تباعد الحزب عن قضايا الناس المستضعفين والإكتفاء بتأييد الذين يتسلمون الرواتب بالعملة الصعبة وبعض الأغنياء الذين لم يتأثروا كثيراً حتى اليوم بالأزمة الخانقة.
– إن استمرار الحالة هذه وتوسع حالة العداء لإيران وخلق أجواء فتنة مؤخراً بين الفلسطينيين كالذي حصل في بعض مخيمات الجنوب من جهة، وحركة التضامن مع الدول المطبعة مع الكيان الغاصب لفلسطين الحبيبة من جهة ثانية، ووجود حالة احباط ويأس لدى عموم شعوب المنطقة والنخبة المثقفة أيضاً نتيجة فتح الأبواب بمصراعيها أمام تمدد الصهاينة في كافة البلاد وحضورهم في مختلف الساحات العربية، وفتح الأجواء أمام الطائرات العسكرية والمدنية الصهيونية، بل وإقامة تدريبات عسكرية مشتركة لدول عربية مع العدو الصهيوني، كل هذا يجعل منه دعاة التطبيع في لبنان ذريعة لبث السموم، وتثبيط همم المواطنين البسطاء، وتكثيف جهودهم لدى المتضررين من الوضع الراهن، وتجميع صفوف الغاضبين والمعترضين، وضمّ آخرين ممن في قلوبهم مرض من مختلف الطوائف والشرائح الإجتماعية وحتى من المعممين من الطائفتين الشيعية والسنية، وذلك من أجل تهيئة الأرضية الشعبية وأيضاً المناخ السياسي الرسمي لينزلق لبنان شيئاً فشيئاً نحو اللحاق بالدول العربية المطبّعة وعقد اتفاق مذلّ مثل اتفاق ١٧ أيار المشؤوم في العام ١٩٨٢.
– إنني أذكّر الذين يراهنون اليوم على استعداد الساحة اللبنانية لقبول الإذعان للكيان الصهيوني بتلك الأوضاع التي كانت سائدة في العام ١٩٨٢، وكيف كان الجنود الصهاينة يتجولون بكل حرية في بعض أزقة المناطق المختلفة ويتم الترحيب بهم في بعض الأحيان ، وحتى أنهم كانوا يقومون بالسباحة على الشاطئ اللبناني دون خوف من أحد، وكيف كانت أساطيل الدول العظمى تفرض الحصار الكامل على الساحل اللبناني، وكيف كان الناس بحاجة ماسّة لربطة الخبز وحليب الأطفال، وكيف كانت العائلات مشردة هنا وهناك في المدارس والمساجد وبعضهم بقي من دون سقف يُظلّه وفراش ينام هو وعائلته عليه، والدولة اللبنانية مطمئنة على نفسها لأنها قطعت العلاقات بصورة كاملة مع الجمهورية الإسلامية في إيران>
– لكن كل ذلك لم يمنع الثلة من الذين أعاروا جماجمهم لله واشتاقوا للقاء رسول الله والأئمة الأطهار عليه وعليهم الصلاة والسلام من قلب الطاولة على رؤوس كافة المستسلمين وطرد جميع الأساطيل وفرض الهزيمة المذلة على جنود الإحتلال، وحتى إجبار لبنان على إعادة العلاقات مع إيران واستقبال السفير الإيراني الجديد بكل الحفاوة في القصر الجمهوري في بعبدا.
– وأنا على يقين بآن أعداد هولاء المجاهدين الصادقين اليوم أكثر بكثير من أعداد إخوانهم الذين دمروا مقري المارينز الأمريكي وقوات النخبة الفرنسية في العاصمة اللبنانية وكذلك تفجير مقر القوات الصهيونية في صور الأبية، وهؤلاء الذين ينعقون اليوم لا نسمع لهم صوتاً ولا تلحظ لهم وجوداً عندما يشمّر أولئك عن سواعدهم، علماً بأن إيران اليوم لا تقاس من حيث القوة مع إيران ١٩٨٢ التي هبّت لنصرة المقاومين اللبنانيين رغم أنها كانت هي مشغولة بالحرب الضروس، لكنها أمدّت المجاهدين اللبنانيين بما مكّنهم من دحر أساطيل القوى العظمى وجحافل المحتلين، في وقت يقف العالم اليوم حائراً أمام إيران النووية ويخاف على نفسه من صواريخها البالستية ويتملكه الفزع من مسيّراتها الهجومية، ولا يأمن على أسراره بفضل أقمارها الصناعية، ولا أمان لكافة مراكزها الإستراتيجية بفعل قوة الإختراق الإلكتروني الإيرانية ، بل إن كثيرين منهم سنراهم يتراجعون سريعاً عن مواقفهم الحالية وذلك حفاظاً على رؤوسهم وخوفاً على حياتهم لأنهم كما قال الله سبحانه: { ولتجدنهم أحرص الناس على حياة } صدق الله العلي العظيم .
– السيد صادق الموسوي