#وكالة_إيران اليوم_الإخبارية
– يتابع الرأي العام العالمي ما يجري في العاصمة النمساوية من مفاوضات بين الجمهورية الإسلامية في إيران من جهة وأطراف الإتفاق النووي والولايات المتحدة من جهة أخرى، ولعل كثيرين في المتابعين في أنحاء العالم يترصدون الأخبار ساعة بساعة ليعرفوا كل جديد ويهتمون بما يصدر من مواقف من جانب المشاركين أو ما يرشح من أوساطهم من تسريبات ليقوموا بتجميعها وتحليلها لعلهم يصلون إلى نتيجة يبنون عليها قراراتهم، فالنفط في الأسواق العالمية مثلاً يتأثر كثيراً بالأجواء السلبية والإيجابية لأن الأولى تتسبب بارتفاع الأسعار والثانية تؤدي إلى هبوطها، وكذلك في مجالات أخرى إفتصادية وغيرها.
– إن معرفة حقيقة ما يجري في اجتماعات المفاوضات النووية تحتاج إلى العضوية في إحدى الوفود أو القرب منها، وهذا ما يصعّب اكتشاف المواقف الحقيقية لمختلف الأطراف، لكن بالمتابعة الدقيقة للتحركات والبيانات الصادرة يمكن التغلغل في الأعماق إلى حد كبير ومعرفة ما يتم تداوله في الغرف المغلقة.
– إننا في مقالات سابقة قدمنا نصيحة لإدارة بايدن بُعيد إعلان فوزه بالرئاسة الأمريكية ليستفيد من الفرصة السانحة في عهد الشيخ حسن روحاني وإنجاز الصفقة والعودة إلى الإتفاق الذي تحقق في عهد باراك أوباما ، حيث كان جو بايدن نائباً للرئيس ومشاركا في قرارات البيت الأبيض، وقلنا إن الفريق الجديد الذي سيخلف ظريف وعراقجي سيعودون بالمفاوضات إلى نقطة الصفر أو ما يقاربها، وسيطرحون أموراً جديدة تُعيد بالمفاوضات خطوات إلى الوراء، لكن المستشارين والمعاونين للرئيس الإمريكي وبعض الأشخاص من داخل إيران أوهموه بضرورة المماطلة في تلبية المطالب الإيرانية حالياً وشجعوه على التسويف حتى يتسلم الفريق الجديد مقاليد الأمور وسيسهل هذا المناقشات وبالنتيجة يمكن ضمان إلتزام الرئيس الجديد وفريقه بنود الإتفاق المُبرم، لكن التطورات أثبتت صحة ما توقعناه، وها هي الولايات المتحدة والأوروبيون يتخبطون فساعة يشعرون بحصول بعض التقدم وحيناً يشعرون بالإخباط إثر تعثر المفاوضات.
– إن السبب الحقيقي للمراوغة الإيرانية هو أولاً تحضير الأجواء لدى القاعدة الشعبية للمحافظين الذين شنّوا حرباً شعواء ضد المفاوضات منذ انطلاقتها في عهد الرئيس أوباما ثم شمتوا بالرئيس روحاني وظريف لما تنصل الرئيس ترامب من الإتفاق وكأنهم ودونالد ترامب كانوا يتناوبون في توجيه السهام لحكومة الشيخ روحاني، وقد وصل الأمر إلى إحراق نسخة من الإتفاقية من قبل أحد النواب علانية في القاعة الرئيسية لمجلس الشورى الإسلامي، وكانوا يتحايلون على المواقف الصريحة والمعلنة والمنكررة لآية الله خامنئي في تأييد الفريق المفاوض وإبداء الثقة بهم.
– إن تحول هذا الفريق من تلك المرحلة إلى القبول بمبدأ التفاوض والإستعداد للتسليم بما سينتج عن المفاوضات بل والتصفيق له واعتباره انتصاراً عظيماً يحتاج إلى فترة من الزمان، وقد بدأ بالفعل تراجع رموز مهاجمة المفاوضات وحكومة الرئيس السابق باتخاذ مواقف لصالح المفاوضات والتأكيد بأن عملية التفاوض هي موضع تأييد القائد، لكنهم يتحاشون التلفظ باسم الإتفاق باللغة الفارسية ( برجام ) وهم يصرّون على استعمال اتفاق عام ٢٠١٥ كي لا يبدو في ذلك تأييداً لما أنجزه الدكتور ظريف ووزراء خارجية الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي وألمانيا واستمراراً للمسيرة نفسها أمام القاعدة الشعبية، ويكرر المؤيدون بدل التلفظ بـ ( برجام ) عبارة ” العمل على رفع الحصار وإنهاء العقوبات الظالمة عن كاهل الشعب الإيراني “ ، ثم القول بأن الفريق الجديد على خلاف سلفه متشبث بشراسة بحقوق الشعب الإيراني ولا يتهاون في المطالبة بها والإنخداع بالوعود الأمريكية والأوروبية الكاذبة، لكن الحقيقة أن وزير الخارجية الحالي كان وطوال سنوات وزارة الدكتور ظريف من المقربين منه والعاملين معه، وهو أثناء مراسم التسلم والتسليم أظهر وفاءه لظريف وأكد على الإستفادة من تجارب سلفه، وهو قام بتوديع ظريف حتى خارج مبنى الخارجية، وهو بعكس المحافظين يستعمل دائماً كلمة ( برجام ) للإشارة إلى المفاوضات الدائرة حالياً في فيننا، ويكرر القول بالتزام الجمهورية الإسلامية بما تم إنجازه على يد زملائه السابقين في وزارة الخارجية في حال عودة الولايات المتحدة إلى الإلتزام بما تعهدت به في الإتفاق النووي.
– لكن انسحاب الرئيس الأمريكي ترامب من الإتفاق الذي صوّت لصالحه مجلس الأمن الدولي بالإجماع والتنصل من التزامات ” دولة الولايات المتحدة “ وجّه ضربة قاسية للمصداقية الأمريكية أمام العالمين، وجعل جميع دول العالم وحتى حلفاء أمريكا التقليديين لا يثقون بما تتعهد بها الإدارات الأمريكية المتعاقبة، لأن مزاجية الرئيس تتحكم بتعهدات ” الدولة “، وعليه صار لزاماً على الجمهورية الإسلامية في إيران المطالبة بضمانات تمنع أي رئيس قادم من النكث بالتعهدات والخروج عن الإتفاقات، فالدولة الإيرانية بمختلف أطرافها وفي عهد جميع رؤسائها تلتزم بالقرارات التي تتخذها، وهي تريد الإطمئنان بعدم تكرار تجربة ترامب من جانب الولايات المتحدة، وذلك التزاماً بمبدأ ” لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين “.
– ثم إن الإصرار الإيراني على الحصول على ضمانات أمريكية يصبّ في مصلحة جميع دول العالم حتى حلفاء أمريكا، والذين عقدوا في الماضي وسيعقدون في المستقبل إتفاقيات مع الولايات المتحدة، لأن ذلك سيكون سابقة يمكن للآخرين الإستناد إليها.
– لكن أمريكا المستكبرة والمتعجرفة تصرّ على العناد وعدم الرضوخ للطلب الإيراني ، وهذه عقدة كبيرة تعثّر المفاوضات، خاصة وأن أعضاءً في مجلسي النواب والشيوخ يصرحون منذ الآن بعرقلة العودة الأمريكية إلى الإتفاقية في عهد بايدن والخروج منها في حال فوز رئيس جديد بعد خروج الرئيس الحالي من البيت الإبيض إذا عجزوا عن مواجهة قراره بالعودة إلى الإتفاق في الوقت الراهن.
– ثم إن الوفد الإيراني يطالب برفع جميع العقوبات المفروضة دفعة واحدة وذلك بسبب فقدان ثقة الجمهورية الإسلامية بالإلتزامات الأمريكية بصورة كاملة، وذلك استناداً إلى التجارب السابقة، فكيف يمكن لإيران أن تثق بالتزامات الطرف الأمريكي المفاوض الذي يطرح مفاوضوه التدرج في رفع العقوبات ، علماً أن كثيراً من تلك الإلتزامات تحتاج إلى قرارات من مجلسي النواب والشيوخ ، وموافقة غالبية أعضائهما غير مضمونة خاصة بعد التحولات المرتقبة في الإنتخابات النصفية والهبوط الحاد في شعبية الرئيس بايدن، لذلك يأتي إصرار الطرف الإيراني على أن يتم رفع العقوبات دفعة واحدة كي لا يتمكن أحد حاضراً ومستقبلاً من التراجع عن الإلتزامات الأمريكية بناءً على مزاجه أو بفعل ضغوط اللوبي الصهيوني صاحب النفوذ القوى في أوساط القرار الأمريكي.
– إذن فالمشكلة الأساسية التي تعثّر المفاوضات الجارية في العاصمة النمساوية هي اصرار الطرف الأمريكي على عدم تقديم ضمانات تمنع نكث الولايات المتحدة في أي حال بعهودها في المستقبل كما فعل الرئيس ترامب، ثم الإصرار على رفع العقوبات دفعة واحدة بسبب عدم وجود ضمانات بوفاء الولايات المتحدة بتعهداتها تجاه الدول في ظل الإدارات المتعاقبة.
– إن روسيا والصين تؤيدان الموقف الإيراني الصلب هذا لكونهما المستفيدين من ذلك والمتخوفين من نكث الولايات المتحدة بعهودها معهما في حال تعارض المصالح الأمريكية في مرحلة من المراحل مع الإلتزامات الأمريكية معهما، علماً أن الصين تناطح الولايات المتحدة إقتصادياً على الصعيد العالمي، وهي تسارع في تطوير قدراتها العسكرية وهذا ما يُعدّ تهديداً قوياً للقوة الأمريكية ، أما روسيا فهي في عهد بوتين تحولت إلى قوة مشاغبة للسياسات الأمريكية في مختلف القارات ، و مهددة لمصالحها في كافة المناطق في العالم، وهي تعمل على توسيع نفوذها على أنقاض النفوذ الأمريكي غير آبهة بالتهديدات الأمريكية الجوفاء.
– أما الإتحاد الأوروبي الذي ذاق المرّ طوال عهد دونالد ترامب، حيث تعامل مع زعمائه بكل استخفاف، واحتقر قادة الدول أثناء استقباله لهم في العاصمة الأمريكية وأيضاً في اللقاءات معهم بالمؤتمرات العالمية.
– وعلى الصعيد الدولي فإن دونالد ترامب استعمل أسلوب ” البلطجة “ في التعامل مع جميع قادة دول العالم وحتى مع المنظمات الدولية والمسؤولين في المؤسسات الإنسانية العالمية، ولم يصدّق زعماء العالم المتحالفون تقليدياً مع الولايات المتحدة كيف تخلصوا من عهد دونالد ترامب، حيث سارعوا إلى تقديم التهاني لجو بايدن بمجرد إعلان النتائج الأولية ولم ينتظروا مصادقة المجمع الإنتخابي على صحة العملية الإنتخابية.
– إذن فإن الكباش بين الطرف الإيراني والأمريكي قائم الآن بسبب الإصرار الأمريكي على عدم تقديم ضمانات تمنع نكثها لعهودها كلما ” تعكر “ مزاج رئيس أو أراد استرضاء اللوبي الصهيوني أملاً في تأييده في الإنتخابات، وأيضاً بسبب معارضة الولايات المتحدة رفع العقوبات كلها دفعة واحدة وهذا ما سيجعل سيف العقوبات مسلطاً في كل لحظة على رقبة الجمهورية الإسلامية، ويجد الأمريكيون ذرائع واهية وأسباب كثيرة للتنصل من تعهداتهم في كل مناسبة بل في كل يوم، وهذا ما نشاهده بوضوح حيث يفرضون العقوبات على كل دولة ومؤسسة وشخصية بل على كل شخص ماداموا لا يتطابقون بالكامل مع السياسات الأمريكية، وبمجرد استسلامهم للإرادة الأمريكية يتم إخراجهم من دائرة العقوبات وتُرفع أسماؤهم من لائحة الإرهاب، وتتوقف ملاحقتهم من قبل المحاكم الدولية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وانتهاك حقوق الإنسان، ويمنح لهم الأفضلية في التعامل التجاري وتعطى لهم التسهيلات للسفر إلى الولايات المتحدة، وتقذم لهم التسهيلات والقروض من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمؤسسات الإقتصادية والمالية الأخرى.
– إن الله سبحانه وتعالى قد حذّر المسلمين من الإنخداع بالكلام المعسول للأعداء المستكبرين والاعتماد على الذين ينقضون عهودهم من بعد ميثاقها لأن ذلك يجرّ الويلات على الأمم والشعوب في الحياة الدنيا واللعنات من الله يوم يقوم الحساب حيث يقول : { الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتّقون } .. { فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم وجعلنا قلوبهم قاسية } صدق الله العلي العظيم.
– السيد صادق الموسوي